فصل: ذكر وصول السلطان محمد إلى بغداد ورحيل السلطان بركيارق عنها

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ **


  ذكر ظفر المسلمين بالفرنج

في ذي القعدة من هذه السنة لقي كمشتكين بن الدانشمند طايلو وإنما قيل له ابن الدانشمند لأن أباه كان معلمًا للتركمان وتقلبت به الأحوال حتى ملك وهو صاحب ملطية وسيواس وغيرهما بيمند الفرنجي وهو من مقدمي الفرنج قريب ملطية وكان صاحبها قد كاتبه واستقدمه إليه فورد عليه في خمسة آلاف فلقيهم ابن الدانشمند فانهزم بيمند وأسر‏.‏

ثم وصل من البحر سبعة قمامصة من الفرنج وأرادوا تخليص بيمند فأتوا إلى قلعة تسمى أنكورية فأخذوها وقتلوا من بها من المسلمين وساروا إلى قلعة أخرى فيها إسماعيل بن الدانشمند وحصروها فجمع ابن الدانشمند جمعًا كثيرًا ولقي الفرنج وجعل له كمينًا وقاتلهم وخرج الكمين عليهم فلم يفلت أحد من الفرنج وكانوا ثلاثمائة ألف غير ثلاثة آلاف هربوا ليلًا وأفلتوا مجروحين‏.‏

وسار ابن الدانشمند إلى ملطية فملكها وأسر صاحبها ثم خرج إليه عسكر الفرنج من أنطاكية فلقيهم وكسرهم وكانت هذه الوقائع في شهور قريبة‏.‏

  ذكر عدة حوادث

في هذه السنة زاد العيارين بالجانب الغربي من بغداد في شعبان وعظم ضررهم فأمر الخليفة كمال الدولة يمن بتهذيب البلد فأخذ جماعة من أعيانهم وطلب الباقين فهربوا‏.‏

وفيها أيضًا انحلت الأسعار بالعراق وكان كر الحنطة قد بلغ سبعين دينارًا وربما زاد كثيرًا في بعض الأوقات وانقطعت الأمطار ويبست الأنهار وكثر الموت حتى عجزوا عن دفن الموتى فحمل في بعض الأوقات ستة أموات على نعش واحد وعدمت الأدوية والعقاقير‏.‏

وفيها في رجب سار بيمند الفرنجي صاحب أنطاكية إلى قلعة أفامية فحصرها وقاتل أهلها أيامًا وأفسد زروعها ثم رحل عنها‏.‏

وفيها‏.‏

في آخر رمضان قتل الأمير بلكابك سرمز بأصبهان بدار السلطان محمد وكان كثير الاحتياط من الباطنية لا يفارقه لبس الدرع ومن يمنع عنه ففي ذلك اليوم لم يلبس درعًا ودخل دار السلطان في قلة فقتله الباطنية فقتل واحد ونجا آخر‏.‏

وفيها توفي أبو الحسن البسطامي الصوفي ورباطه مشهور على دجلة غربي بغداد بناه أبو الغنائم بن المحلبان‏.‏

وفيها مات أبو نصر بن أبي عبد الله بن جردة وأصله من عكبرا وإليه ينسب مسجد ابن جردة وخرابة ابن جردة ببغداد‏.‏

وفيها توفي أبو علي يحيى نب جزلة الطبيب وكان نصرانيًا فأسلم وهو مصنف كتاب المنهاج‏.‏

وفيها في شوال توفي عبد الرزاق الصوفي الغزنوي المقيم برباط عتاب وحج عدة حجات على التجريد ولم يخلف ما تكفن فيه فقالت زوجته‏:‏ إذا مت افتضحنا قال‏:‏ لم نفتضح قالت‏:‏ لأنك ليس لك ما تكفن فيه‏.‏

فقال‏:‏ إنما أفتضح إذا خلفت ما أكفن فيه‏.‏

وفيها في رمضان توفي عز الدولة أبو المكارم محمد بن سيف الدولة صدقة بن مزيد‏.‏

  ثم دخلت سنة أربع وتسعين وأربعمائة

  ذكر الحرب بين السلطانين بركيارق ومحمد

في هذه السنة ثالث جمادى الآخرة كان المصاف الثاني بين السلطان بركيارق والسلطان محمد وقد ذكرنا سنة ثلاث وتسعين انهزام السلطان بركيارق من أخيه السلطان محمد وتنقله في البلاد إلى أصبهان وأنه لم يدخلها وسار منها إلى خوزستان وأتى عسكر مكرم فأتاه الأميران زنكي والبكي ابنا برسق وصارا معه وأقام بها شهرين وسار منها إلى همذان فاتصل به الأمير إياز‏.‏

وكان سبب ذلك أن أمير آخر قد مات مذ قريب فاتهم إياز مؤيد الملك بأنه سقاه السم وقوى ذلك عنده أن وزير أمير آخر هرب عقيب موته فازداد ظن إياز باتهامه فظفر بالوزير فقتله‏.‏

وكان إياز قد اتخذ أمير آخر ولدًا واتصل به العسكر ووصى له بجميع ماله فحين استوحش لهذا السبب كاتب السلطان بركيارق واتصل به ومعه خمسة آلاف فارس وصار من جملة عسكره‏.‏

وسار السلطان محمد إلى لقاء أخيه فلما تقارب العسكران استأمن الأمير سرخاب بن كيخسرو صاحب آوة إلى السلطان بركيارق فأكرمه‏.‏

ووقع المصاف ثالث جمادى الآخرة وكان مع السلطان بركيارق خمسون ألفًا ومع أخيه السلطان محمد خمسة عشر ألفًا فالتقوا فاقتتلوا يومهم أجمع وكان النفر بعد النفر يستأمنون من عسكر محمد إلى بركيارق فيحسن إليهم‏.‏

ومن العجب الدال على الظفر أن رجالة بركيارق احتاجوا إلى تراس فوصل إليه يوم المصاف بكرة اثنا عشر حملًا سلاحًا من همذان منها ثمانية أحمال تراس ففرقت فيهم فلما وصلت نزل السلطان بركيارق وصلى ركعتين شكرًا لله تعالى‏.‏

ولم يزل القتال بينهم إلى آخر النهار فانهزم السلطان محمد وعسكره وأسر مؤيد الملك أسره غلام لمجد الملك البلاساني وأحضر عند السلطان بركيارق فسبه وأوقفه على ما اعتمده معه من سب والدته مرة ونسبته إلى مذهب الباطنية أخرى ومن حمل أخيه محمد على عصيانه والخروج عن طاعته إلى غير ذلك ومؤيد الملك ساكت لا يعيد كلمة فقتله بركيارق بيده وألقي على الأرض عدة أيام حتى سأل الأمير إياز في دفنه فأذن فيه فحمل إلى تربة أبيه بأصبهان فدفن معه‏.‏

وكان بخيلًا سيء السيرة مع الأمراء إلا أنه كان كثير المر والحيل في إصلاح أمر الملك وكان عمره لما قتل نحو خمسين سنة‏.‏

وكان السلطان بركيارق قد استوزر في صفر الأعز أبا المحاسن عبد الجليل ابن علي الدهستاني فلما قتل مؤيد الملك أرسل الوزير أبو المحاسن رسولًا إلى بغداد وهو أبو إبراهيم الأسداباذي لأخذ أموال مؤيد الملك فنزل ببغداد بدار مؤيد الملك وسلم إليه محمد الشرابي وهو ابن خالة مؤيد الملك فأخذت منه الأموال والجواهر بعد مكروه أصابه وعذاب ناله وأخذ له ذخائر من مواضع أخر ببلاد العجم منها‏:‏ قطعة بلخش وزنها واحد وأربعون مثقالًا‏.‏

ولما فرغ السلطان بركيارق من هذه الوقعة سار إلى الري‏.‏

فوصل إليه هناك قوام الدولة كربوقا صاحب الموصل ونور الدولة دبيس بن صدقة بن مزيد‏.‏

  ذكر حال السلطان محمد بعد الهزيمة واجتماع بأخيه الملك سنجر

لما انهزم السلطان محمد سار طالبًا خراسان إلى أخيه سنجر وهما لأم واحدة فأقام بجرجان وراسل أخاه يطلب منه مالًا وكسوة وغير ذلك فسير إليه ما طلب وترددت الرسل بينهما حتى تحالفا واتفقا‏.‏

ولم يكن بقي مع السلطان محمد غير أميرين في نحو ثلاثمائة فارس فلما استقرت القواعد بينهما سار الملك سنجر من خراسان في عساكره نحو أخيه السلطان محمد فاجتمعا بجرجان وسارا منها إلى دامغان فخربها العسكر الخراساني ومضى أهلها هاربين إلى قلعة كردكوه وخرب العسكر ما قدروا عليه من البلاد وعم الغلاء تلك الأصقاع حتى أكل الناس الميتة والكلاب وأكل الناس بعضهم بعضًا وسارا إلى الري فلما وصلا إليها انضم إليهما النظامية وغيرهم فكثر جمعهما وعظمت شوكتهما وتمكنت من القلوب هيبتهما‏.‏

  ذكر ما فعله السلطان بركيارق ودخوله بغداد

لما كان السلطان بركيارق بالري بعد انهزام أخيه محمد اجتمعت عليه العساكر الكثيرة فصار معه نحو مائة ألف فارس ثم إنهم ضاقت عليهم الميرة فتفرقت العساكر فعاد دبيس بن صدقة إلى أبيه وخرج الملك مودود بن إسماعيل بن ياقوتي بأذربيجان فسير إليه قوام الدولة كربوقا في عشرة آلاف فارس واستأذن الأمير إياز في أن يقصد داره بهمذان يصوم بها شهر رمضان ويعود بعد الفطر فأذن له وتفرقت العساكر لمثل ذلك وبقي في العدد القليل‏.‏

فلما بلغه أن أخويه قد جمعا الجموع وحشدا الجنود وأنهما لما بلغهما قلة من معه جدا في المسير إليه وطويا المنازل ليعاجلاه قبل أن يجمع جموعه وعساكره فلما قارباه سار من مكانه وقد طمع فيه من كان يهابه وأيس منه من كان يرجوه فقصد نحو همذان ليجتمع هو وإياز فبلغه أن إياز قد راسل السلطان محمدًا ليكون معه ومن جملة أعوانه خوفًا على ولايته وهي همذان وغيرها فلما سمع ذلك عاد عنها وقصد خوزستان فلما قرب من تستر كاتب الأمراء بني برسق يستدعيهم إليه فلم يحضروا لما علموا أن إياز لم يحضر وللخوف من السلطان محمد فسار نحو العراق فلما بلغ حلوان أتاه رسول الأمير إياز يسأل التوقف ليصل إليه‏.‏

وسبب ذلك أن إياز راسل السلطان محمد في الانضمام إليه والمصير في جملة عسكره فلم يقبله وسير العساكر إلى همذان ففارقها منهزمًا ولحق بالسلطان بركيارق فأقام السلطان بركيارق بحلوان ووصل إليه إياز وساروا جميعهم إلى بغداد‏.‏

وأخذ عسكر محمد ما تخلف للأمير إياز بهمذان من مال ودواب وبرك وغير ذلك فإنه أعجل عنه وكان من جملته خمسمائة حصان عربية قيل كان يساوي كل حصان منها ما بين ثلاثمائة دينار إلى خمسمائة دينار ونهبوا داره وصادروا جماعة من أصحابه وصودر رئيس همذان بمائة ألف دينار‏.‏

ولما وصل إياز إلى بركيارق تكاملت عدتهم خمسة آلاف فارس وقد ذهبت خيامهم وثقلهم ووصل بركيارق إلى بغداد سابع عشر ذي القعدة وأرسل الخليفة إلى طريقه يلتقيه أمين الدولة بن موصلايا في الموكب ولما كان عيد الأضحى نفذ الخليفة منبرًا إلى دار السلطان وخطب عليه وضاقت الأموال على بركيارق فلم يكن عنده ما يخرجه على نفسه وعلى عساكره فأرسل إلى الخليفة يشكو الضائقة وقلة المال ويطلب أن يعان بما يخرجه فتقرر الأمر بعد المراجعات على خمسين ألف دينار حملها الخليفة إليه ومد بركيارق وأصحابه أيديهم إلى أموال الناس فعم ضررهم وتمنى أهل البلاد زوالهم عنهم ودعتهم الضرورة إلى أن ارتكبوا خطة شنعاء وذلك أنه قدم عليهم أبو محمد عبيد الله بن منصور المعروف بابن صليحة قاضي جبلة من بلاد الشام وصاحبها منهزمًا من الفرنج على ما نذكره ومعه أموال جليلة المقدار فأخذوها منه‏.‏

  ذكر خلاف صدقة بن مزيد على بركيارق

في هذه السنة خرج الأمير صدقة بن منصور بن دبيس بن مزيد صاحب الحلة عن طاعة السلطان بركيارق وقطع خطبته من بلاده وخطب فيه للسلطان محمد‏.‏

وسبب ذلك أن الوزير الأعز أبا المحاسن الدهستاني وزير السلطان بركيارق أرسل إلى صدقة يقول له‏:‏ قد تخلف عندك لخزانة السلطان ألف ألف دينار وكذا وكذا دينار لسنين كثيرة فإن أرسلتها وإلا سيرنا العساكر إلى بلادك وأخذناها منك‏.‏

فلنا سمع هذه الرسالة قطع الخطبة وخطب لمحمد‏.‏

فلما وصل السلطان بركيارق إلى بغداد على هذه الحال أرسل إليه مرة بعد مرة يدعوه إلى الحضور عنده فلم يجب إلى ذلك فأرسل إليه الأمير إياز يشير عليه بقصد خدمة السلطان ويضمن له كل ما يريده فقال‏:‏ لا أحضر ولا أطيع السلطان إلا إذا سلم وزيره أبا المحاسن إلي وإن لم يفعل فلا يتصور مني الحضور عنده أبدًا ويكون في ذلك ما يكون فإن سلمه إلي فأنا العبد المخلص في العبودية بالحسن والطاعة‏.‏

فلم يجب إلى ذلك فتم على مقاطعته وأرسل إلى الكوفة وطرد عنها النائب بها عن السلطان واستضافها إليه‏.‏

  ذكر وصول السلطان محمد إلى بغداد ورحيل السلطان بركيارق عنها

في هذه السنة في السابع والعشرين من ذي الحجة وصل السلطان محمد وسنجر إلى بغداد وكان السلطان محمد لما استولى على همذان وغيرها سار إلى بغداد فلما وصل إلى حلوان سار إليه إيلغازي بن أرتق في عساكره وخدمه وأحسن في الخدمة وكان عسكر محمد يزيد على عشرة آلاف فارس سوى الأتباع‏.‏

فلما وصلت الأخبار بذلك كان بركيارق على شدة من المرض يرجف عليه خواصه بكرة وعشيًا فماج أصحابه وخافوا واضطربوا وحاروا وعبروا به في محفة إلى الجانب الغربي فنزلوا بالرملة ولم يبق في بركيارق غير روح يتردد وتيقن أصحابه موته وتشاوروا في كفنه وموضع دفنه‏.‏

فبينما هم كذلك إذ قال لهم‏:‏ إني أجد نفسي قد قويت وحركتي قد تزايدت فطابت نفوسهم وساروا وقد وصل العسكر الآخر فتراءى الجمعان بينهما دجلة وجرى بينهما مراماة وسباب وكان أكثر ما يسبهم عسكر يا باطنية يعيرونهم بذلك ونهبوا البلاد في طريقهم إلى أن وصلوا إلى واسط‏.‏

ووصل السلطان محمد إلى بغداد فنزل بدار المملكة فبرز إليه توقيع الخليفة المستظهر بالله يتضمن الامتعاض من سوء سيرة بركيارق ومن معه والاستبشار بقدومه وخطب به بالديوان ونزل الملك سنجر بدار كوهرائين وكان محمد قد استوزر بعد مؤيد الملك خطير الملك أبا منصور محمد بن الحسين وقدم إليه في المحرم سنة خمس وتسعين الأمير سيف الدولة صدقة وخرج الخلق كلهم إلى لقائه‏.‏

  ذكر حال قاضي جبلة

هو أبو محمد عبيد الله بن منصور المعروف بابن صليحة وكان والده رئيسها أيام كان الروم مالكين لها على المسلمين يقضي بينهم فلما ضعف أمر الروم وملكها المسلمون وصارت تحت حكم جلال الملك أبي الحسن علي بن عمار صاحب طرابلس وكان منصور على عادته في الحكم فيها‏.‏

فلما توفي منصور قام ابنه أبو محمد مقامه وأحب الجندية واختار الجند فظهرت شهامته فأراد ابن عمار أن يقبض عليه فاستشعر منه وعصى عليه وأقام الخطبة العباسية فبذل ابن عمار لدقاق بن تتش مالًا ليقصده ويحصره ففعل وحصره فلم يظفر منه بشيء وأصيب صاحبه أتابك طغتكين بنشابة في ركبتيه وبقي أثرها‏.‏

وبقي أبو محمد بها مطاعًا إلى أن جاء الفرنج لعنهم الله فحصروها فأظهر أن السلطان بركيارق قد توجه إلى الشام وشاع هذا فرحل الفرنج فلما تحققوا اشتغال السلطان عنهم عاودوا حصاره فأظهر أن المصريين قد توجهوا لحربهم فرحلوا ثانيًا ثم عادوا فقرر مع النصارى الذين بها أن يراسلوا الفرنج ويواعدوهم إلى برج من أبراج البلد ليسلموه إليهم ويملكوا البلد فلما أتتهم الرسالة جهزوا نحو ثلاثمائة رجل من أعيانهم وشجعانهم فتقدموا إلى ذلك البرج فلم يزالوا يرقون في الحبال واحدًا بعد واحد وكلما صار عند ابن صليحة وهو على السور رجل منهم قتله إلى أن قتلهم أجمعين فلما أصبحوا رمى الرؤوس إليهم فرحلوا عنه‏.‏

وحصروه مرة أخرى ونصبوا على البلد برج خشب وهدموا برجًا من أبراجه وأصبحوا وقد بناه أبو محمد ثم نقب في السور نقوبًا وخرج من الباب وقاتلهم فانهزم منهم وتبعوه فخرج أصحابه من تلك النقوب فأتوا الفرنج من ظهورهم فولوا منهزمين وأسر مقدمهم المعروف بكند اصطبل فافتدى نفسه بمال جزيل‏.‏

ثم علم أنهم لا يقعدون عن طلبه وليس له من يمنعهم عنه فأرسل إلى طغتكين أتابك يلتمس منه إنفاذ من يثق به ليسلم إليه ثغر جبلة ويحميه ليصل هو إلى دمشق بماله وأهله فأجابه إلى ما التمس وسير إليه ولده تاج الملوك بوري فسلم إليه البلد ورحل إلى دمشق وسأله أن يسيره إلى بغداد ففعل وسيره ومعه من يحميه إلى أن وصل إلى الأنبار‏.‏

ولما صار بدمشق أرسل ابن عمار صاحب طرابلس إلى الملك دقاق وقال‏:‏ سلم إلي ابن صليحة عريانًا وخذ ماله أجمع وأنا أعطيك ثلاثمائة ألف دينار فلم يفعل‏.‏

فلما وصل إلى الأنبار أقام بها أيامًا ثم سار إلى بغداد وبها السلطان بركيارق فلما وصل أحضره الوزير الأعز أبو المحاسن عنده وقال له‏:‏ السلطان محتاج والعساكر يطالبونه بما ليس عنده ونريد منك ثلاثين ألف دينار وتكون له منة عظيمة تستحق بها المكافأة والشكر‏.‏

فقال‏:‏ السمع والطاعة ولم يطلب أن يحط شيئًا وقال‏:‏ إن رحلي ومالي في الأنبار بالدار التي نزلتها فأرسل الوزير إليها جماعة فوجدوا فيها مالًا كثيرًا وأعلاقًا نفيسة فمن جملة ذلك ألف ومائة قطعة مصاغ عجيب الصنعة ومن الملابس والعمائم التي لا يوجد مثلها شيء كثير‏.‏

كان ينبغي أن نذكر هذه الحوادث التي بعد انهزام السلطان محمد إلى ها هنا بعد قتل الباطنية فإنها كانت أواخر السنة وكان قتلهم في شعبان وإنما قدمناها لنتبع بعض الحادثة بعضًا لا يفصل بينها شيء‏.‏

وأما تاج الملوك بوري فإنه لما ملك جبلة وتمكن منها أساء السيرة هو وأصحابه مع أهلها وفعلوا بهم أفعالًا أنكروها فراسلوا القاضي فخر الملك أبا علي عمار بن محمد بن عمار صاحب طرابلس وشكوا إليه ما يفعل بهم وطلبوا منه أن يرسل إليهم بعض أصحابه ليسلموا إليه البلد ففعل ذلك وسير إليهم عسكرًا فدخلوا جبلة واجتمعوا بأهلها وقاتلوا تاج الملوك ومن معه فانهزم الأتراك وملك عسكر ابن عمار جبلة وأخذوا تاج الملوك أسيرًا وحملوه إلى طرابلس فأكرمه ابن عمار وأحسن إليه وسيره إلى أبيه بدمشق واعتذر إليه وعرفه صورة الحال وأنه خاف أن يملك الفرنج جبلة‏.‏

  ذكر قتل الباطنية

في هذه السنة في شعبان أمر السلطان بركيارق بقتل الباطنية وهم الإسماعيلية وهم الذين كانوا قديمًا يسمون قرامطة ونحن نبتديء بأول أمرهم الآن ثم بسبب قتلهم‏.‏

فأول ما عرف من أحوالهم أعني هذه الدعوة الأخيرة التي اشتهرت بالباطنية والإسماعيلية في أيام السلطان ملكشاه فإنه اجتمع منهم ثمانية عشر رجلًا فصلوا صلاة العيد في ساوة ففطن بهم الشحنة فأخذهم وحبسهم ثم سئل فيهم فأطلقهم فهذا أول اجتماع كان لهم‏.‏

ثم إنهم دعوا مؤذنًا من أهل ساوة كان مقيمًا بأصبهان فلم يجبهم إلى دعوتهم فخافوه أن ينم عليهم فقتلوه فهو أول قتيل لهم وأول دم أراقوه فبلغ خبره إلى نظام الملك فأمر بأخذ من يتهم بقتله فوقعت التهمة على نجار اسمه طاهر فقتل ومثل به وجروا برجله في الأسواق فهو أول قتيل منهم وكان والده واعظًا وقدم إلى بغداد مع السلطان بركيارق سنة ست وثمانين فحظي منه ثم قصد البصرة فولي القضاء بها ثم توجه في رسالة إلى كرمان فقتله العامة في الفتنة التي جرت وذكروا أنه باطني‏.‏

ثم إن الباطنية قتلوا نظام الملك وهي أول فتكة مشهورة كانت لهم وقالوا‏:‏ قتل نجارًا فقتلناه به‏.‏

وأول موضع غلبوا عليه وتحصنوا به بلد عند قاين كان متقدمه على مذهبهم فاجتمعوا عنده

وقووا به فاجتازت بهم قافلة عظيمة من كرمان إلى قاين فخرج عليهم ومعه أصحابه والباطنية فقتل أهل القفل أجمعين ولم ينج منهم غير رجل تركماني فوصل إلى قاين فأخبر بالقصة فتسارع أهلها مع القاضي الكرماني إلى جهادهم فلم يقدروا عليهم‏.‏

ثم قتل نظام الملك ومات السلطان ملكشاه فعظم أمرهم واشتدت شوكتهم وقويت أطماعهم‏.‏

وكان سبب قوتهم بأصبهان أن السلطان بركيارق لما حصر أصبهان وبها أخوه محمود وأمه خاتون الجلالية وعاد عنهم ظهرت مقالة الباطنية بها وانتشرت وكانوا متفرقين في المحال فاجتمعوا وصاروا يسرقون من قدروا عليه من مخالفيهم ويقتلونهم فعلوا هذا بخلق كثير وزاد الأمر حتى إن الإنسان كان إذا تأخر عن بيته عن الوقت المعتاد تيقنوا قتله وقعدوا للعزاء به فحذر الناس وصاروا لا ينفرد أحد وأخذوا في بعض الأيام مؤذنًا أخذه جار له باطني فقام أهله للنياحة عليه فأصعده الباطنية إلى سطح داره وأروه أهله كيف يلطمون ويبكون وهو لا يقدر أن يتكلم خوفًا منهم‏.‏

  ذكر ما فعل بهم العامة بأصبهان

لما عمت هذه المصيبة الناس بأصبهان أذن الله تعالى في هتك أستارهم والانتقام منهم فاتفق أن رجلًا دخل دار صديق له فرأى فيها ثيابًا ومداسات وملابس لم يعهدها فخرج من عنده وتحدث بما كان فكشف الناس عنها فعلموا أنها من المقتولين‏.‏

وثار الناس كافة يبحثون عمن قتل منهم ويستكشفون فظهروا على الدروب التي هم فيها وإنهم كانوا إذا اجتاز بهم إنسان أخذوه إلى دار منها وقتلوه وألقوه في بئر في الدار قد صنعت لذلك‏.‏

وكان على باب درب منها رجل ضرير فإذا اجتاز به إنسان يسأله أن يقوده خطوات إلى باب الدرب فيفعل ذلك فإذا دخل الدرب أخذ وقتل فتجرد للانتقام منهم أبو القاسم مسعود بن محمد الخجندي الفقيه الشافعي وجمع الجم الغفير بالأسلحة وأمر بحفر أخاديد وأوقد فيها النيران وجعل العامة يأتون بالباطنية أفواجًا ومنفردين فيلقون في النار وجعلوا إنسانًا على أخاديد النيران وسموه مالكًا فقتلوا منهم خلقًا كثيرًا‏.‏

  ذكر قلاعهم التي استولوا عليها ببلاد العجم

واستولوا على عدة حصون منها قلعة أصبهان وهذه القلعة لم تكن قديمًا وإنما بناها السلطان وسبب بنائها أنه كان أتاه رجل من مقدمي الروم فأسلم وصار معه فاتفق أنه سار يومًا إلى الصيد فهرب منه كلب حسن الصيد وصعد هذا الجبل فتبع السلطان والرومي معه فوجده موضع القلعة فقال له الرومي‏:‏ لو أن عندنا مثل هذا الجبل لجعلنا عليه حصنًا ننتفع به فأمر ببناء القلعة ومنع منها نظام الملك فلم يقبل قوله فلما فرغت جعل فيها دزدارًا‏.‏

فلما انقضت أيام السلطان ملكشاه وصارت أصبهان بيد خاتون أزالت الدزدار وجعلت غيره فيها وهو إنسان ديلمي اسمه زيار فمات وصار بالقلعة إنسان خوزي فاتصل به أحمد بن عطاش وكان الباطنية قد ألبسوه تاجًا وجمعوًا له أموالًا وقدموه عليهم مع جهله وإنما كان أبوه مقدمًا فيهم فلما اتصل بالدزدار بقي معه ووثق به وقلده الأمور فلما توفي الدزدار استولى أحمد بن عطاش عليها ونال المسلمين منها ضرر عظيم من أخذ الأموال وقتل النفوس وقطع الطريق والخوف الدائم فكانوا يقولون‏:‏ إن قلعة يدل عليها كلب ويشير بها كافر لا بد وأن يكون خاتمة أمرها الشر‏.‏

ومنها ألموت وهي من نواحي قزوين قيل إن ملكًا من ملوك الديلم كان كثير التصيد فأرسل يومًا عقابًا وتبعه فرآه سقط على موضع هذه القلعة فوجده موضعًا حصينًا فأمر ببناء قلعة عليه فسماها أله موت ومعناه بلسان الديلم‏:‏ تعليم العقاب ويقال لذلك الموضع وما يجاوره وفيها قلاع حصينة أشهرها ألموت وكانت هذه النواحي في ضمان شرفشاه الجعفري وقد استناب فيها رجلًا علويًا فيه بله وسلامة صدر‏.‏

وكان الحسن بن الصباح رجلًا شهمًا كافيًا عالمًا بالهندسة والحساب والنجوم والسحر وغير ذلك وكان رئيس الري إنسان يقال له أبو مسلم وهو صهر نظام الملك فاتهم الحسن بن الصباح بدخول جماعة من دعاة المصريين عليه فخافه ابن الصباح وكان نظام الملك يكرمه وقال له يومًا من طريق الفراسة‏:‏ عن قريب يضل هذا الرجل ضعفاء العوام فلما هرب الحسن من أبي مسلم طلبه فلم يدركه‏.‏

وكان الحسن من جملة تلامذة ابن عطاش الطبيب الذي ملك قلعة أصبهان ومضى ابن الصباح فطاف البلاد ووصل إلى مصر ودخل على المستنصر صاحبها فأكرمه وأعطاه مالًا وأمره أن يدعو الناس إلى إمامته فقال له الحسن‏:‏ فمن الإمام بعدك فأشار إلى ابنه نزار وعاد من مصر إلى الشام والجزيرة وديار بكر والروم ورجع إلى خراسان ودخل كاشغر وما وراء النهر يطوف على قوم يضلهم فلما رأى قلعة ألموت واختبر أهل تلك النواحي أقام عندهم وطمع في إغوائهم ودعاهم في السر وأظهر الزهد ولبس المسح فتبعه أكثرهم والعلوي صاحب القلعة حسن الظن فيه يجلس إليه يتبرك به فلما أحكم الحسن أمره دخل يومًا على العلوي بالقلعة فقال له ابن الصباح‏:‏ اخرج من هذه القلعة فتبسم العلوي وظنه يمزح فأمر ابن الصباح بعض أصحابه بإخراج العلوي فأخرجوه إلى دامغان وأعطاه ماله وملك القلعة‏.‏

ولما بلغ الخبر إلى نظام الملك بعث عسكرًا إلى قلعة ألموت فحصروه فيها وأخذوا عليه الطرق فضاق ذرعه بالحصر فأرسل من قتل نظام الملك فلما قتل رجع العسكر عنها‏.‏

ثم إن السلطان محمد بن ملكشاه جهز نحوها العساكر فحصرها وسيرد ذكر ذلك إن شاء الله تعالى‏.‏

ومنها طبس وبعض قهستان وكان سبب ملكهم لها أن قهستان كان قد بقي فيها بقايا من بني سيمجور أمراء خراسان أيام السامانية وكان قد بقي من نسلهم رجل يقال له المنور وكان رئيسًا مطاعًا عند الخاصة والعامة فلما ولي كلسارغ قهستان ظلم الناس وعسفهم وأراد أختًا للمنور بغير حل فحمل ذلك المنور على أن التجأ إلى الإسماعيلية وصار معهم فعظم حالهم في قهستان واستولوا عليها ومن جملتها خور وخوسف وزوزن وقاين وتون وتلك الأطراف المجاورة لها‏.‏

ومنها قلعة وسنمكوه ملكوها وهي بقرب أبهر سنة أربع وثمانين وتأذى بهم الناس لاسيما أهل أبهر فاستغاثوا بالسلطان بركيارق فجعل عليها من يحاصرها فحوصرت ثمانية أشهر ومنها قلعة خالنجان على خمسة فراسخ من أصبهان كانت لمؤيد الملك بن نظام الملك وانتقلت إلى جاولي سقاوو فجعل بها إنسانًا تركيًا فصادقه نجار باطني وأهدى له هدية جميلة ولزمه حتى وثق به وسلم إليه مفاتيح القلعة فعمل دعوة للتركي وأصحابه فسقاهم الخمر فأسكرهم واستدعى ابن عطاش فجاء في جماعة من أصحابه فسلم إليهم القلعة فقتلوا من بها سوى التركي فإنه هرب وقوي ابن عطاش بها وصار له على أهل أصبهان القطائع الكثيرة‏.‏

ومن قلاعهم المذكورة أستوناوند وهي بين الري وآمل ملكوها بعد ملكشاه نزل منها صاحبها فقتل وأخذت منه‏.‏

ومنها أردهن وملكها أبو الفتوح ابن أخت الحسن بن الصباح‏.‏

ومنها كردكوة وهي مشهورة‏.‏

ومنها قلعة الناظر بخوزستان وقلعة الطنبور وبينها وبين أرجان فرسخان أخذها أبو حمزة الإسكاف وهو من أهل أرجان سافر إلى مصر وعاد داعية لهم‏.‏

وقلعة خلادخان وهي بين فارس وخوزستان وأقام بها المفسدون نحو مائتي سنة يقطعون الطريق حتى فتحها عضد الدولة بن بويه وقتل من بها‏.‏

فلما صارت الدولة لملكشاه أقطعها الأمير أنر فجعل بها دزدارًا فأنفذ إليه الباطنية الذين بأرجان يطلبون مه بيعها فأبى فقالوا له‏:‏ نحن نرسل إليك من يناظرك حتى يظهر لك الحق فأجابهم إلى ذلك فأرسلوا إليه إنسانًا ديلميًا يناظره وكان للدزدار مملوك قد رباه وسلم إليه مفاتيح القلعة فاستماله الباطني فأجابه إلى القبض على صاحبه وتسليم القلعة إليهم فقبض عليه وسلم القلعة إليهم ثم أطلقه واستولوا بعد ذلك على عدة قلاع هذه أشهرها‏.‏